لم يمر على ولادتها سوى سبعة اعوام عندما غادرت منزلها !! وببطء شديد سافرت !! لينفث في روحها الصغيرة علامات استغراب كثيرة لم يفهمها احد .. تسارعت الاحداث ، احداث اكبر من حدقات عيونها التي حفظت معالم الجمال غيبا ً وشاهدت اجمل اللحظات على مر حياتها الصغيرة !! حياة الطفولة !! والجديلتين .. والشبرة الحمراء التي تحتضنها بلطف دافيء !! والكثير الكثير من الدمى المتراشقة على مراحل العمر والسنون القلائل !! لقد تركت وراءها الف ذكرى والف قبلة من زهور البيت و وروده المنسية حول الفناء !! غادرت ليس الى مدرسة البراعم ! وليس الى دكان الالعاب ولا حتى الى مرتعها المفضل !! بل الى الكثير من المسافات التي لم تسعفها الارقام العشرة التي تعلمت على عدها !! لقد ودعت كل شيء وإستعدت لإستقبال أشياء أكثر صخباً و أكثر عشوائية دون ان تشعر !
حملوها اهلها معهم !! الى اين يا ترى !! من ماضي بسيط جميل الى حاضر يفتقد الثبات ! ومجهول يقف على عتبات الايام القادمة !! تناقلتها الطائرات والمراكب .. وحطت في اراض كثيرة وشعوب كثيرة وألوان شتى !! ليست معتاده على تغير الوجوه !! كانت صغيرة ولكنها سرعان ما كبرت وتابعت الدنيا عشوائيتها الى ان استقر بها الدوَار بأرض احتضنتها بحنو !! وعاشت مع اهلها جمال الماضي واستقرار الحاضر وأحلام المستقبل !!
إستعادت بعض مقومات العيش !! وعاشت لحظات جميلة ولكن صورة ذلك البيت القديم وتلك الازهار المرشوقة بعشوائية بفناءه لم تكن تفارق مخيلة تلك الفتاه التي تستعد الآن للاحتفال بعامها العشرون !! عشرون عاما ً !! يا ترى هذا وقت كاف ٍ للعودة ؟ وهل هذا الوقت كاف لتشبع معنى الغربة ؟!! بالتأكيد نعم !! وخاصة عندما يكون الشوق قد أرهق ذاكرتها خيالهـا في اليوم الف مرة !! فهي تشتاق لذلك الصباح الذي يزف لها صوت أطفال مدرسة البراعم !! ولسعة برد الصباح !! وحقيبتها واوراقها وكرَاسة رسمها !! نعم فحلم العودة كان يراود الدمع كل ليلة يكف فيها القمر عن مغازلتها ساهرة !! وحيدة تحت لونه الفضي !! إنه حلم العودة والتخلص من غربتها التي عايشتها أعوام طوال !
و بين لحظة شك ولحظة يقين !! تسربت الى مسامعها أخبار عاصفة !! تناقلتها الانباء في كل بقاع الدنيا !! ومشاهد صارخة وبلاد مزقها الدمار .. ولم تترك الشظايا قلبا الا وزرعت به غصة ومشهد الدموع أصبح يتصدر كل الصفحات !! انها يد الحرب !! وأصابع الخراب العابثة !! لون أسود طغى على كل الالوان وشكل واحد فقط ينازع صورة مدرسة البراعم التي علقت طويلا في مخيلتها !! صورة بيت يحترق وزهرة تحتضر تحت ركام وبقايا اسمال فناء !! ودمية مكسورة داستها أقدام الدمار بدون قصـــد !!
ماذا يا ترى بقي لها الان من ركام الدنيا !! حلم ضائع .. وذكريات قاسية .. وصور مجردة من الالوان !! ومستقبل يبحث عن الف استقرار وسؤال واحد يبحث عن الف إجابة !! ماذا بقي لها الآن ؟!